صوت من غزة…………
هو كما عرفته 1995 في شقة الدراسات العليا في جامعة السابع من أبريل في الزاوية.. نفس الروح المرح والبشاشة. نفس الصوت الدافئ الذي يكرر الألفاظ، ولا يكاد ينهي الجمل.. كأنما يتوجس من اللغة، أو يتخير من الكلمات أطايبها…
– طمني عليكم!
– نحن بخير والحمد لله. نطقها وكأنه في اجازة صيفية على شواطئ الريفييرا!! كأن الحمم لا تصب فوق رأسه منذ أسبوع! كأنه لا يشيع كل يوم أعز زملائه، وأغلا طلابه! كأنه لا يعاني حصارا صارما غاشما منذ عقد يزيد!!
نطقها بلا مبالاة يحسد عليها.. “نحن بخير والحمد لله”. إذا كان أهل غزة يشعرون أنهم بخير والحمد لله رغم كل ما يتعرضون له من إبادة، فإن الإسلام لا يزال بخير، إذ لا يستمدون هذا الشعور بالطمأنينة إلا من عقيدتهم.. أغلقت عليهم منافذ الأرض، ففتحت لهم أبواب السماء…
منذ عقود ونحن نستورد المسدسات والذخيرة الخلّب من أجل المناورات.. عقود بالمليارات، وخردة تتكدس على خردة.. سبع سنوات كانت كافية ليصنعوا بمواد أولية زهيدة عتادا يقذف الرعب، ويحدث الدمار… لم يتطلب ذلك مصانع عملاقة، ولا تقنية عالية، ولا قروضا دولية، ولا خبراء أجانب.. فقط إرادة فولاذية، واستعداد صادق للتضحية.. شباب تسلحوا بالعلم، وآمنوا بالله، فأعدوا ما استطاعوا من قوة…
ثم أردف، برهانا على فضل الله عليهم..
– النت متوفر، والكهرباء.. الشوارع التي دمرت أعيد تأهيلها خلال 24ساعة.. الحياة تسير بشكل طبيعي..
إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه، فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين”. القصف لا يقتل، فلكل أجل كتاب، والدمار مناسبة لتجديد البنى التحتية، والمحن تصهر الرجال لتصقل معادنهم.. أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين!
كان الدكتور محمد سعيد العمور، أبو يونس يحدثني في شؤون الحياة اليومية كأي شخص من الطبقة الوسطى يعيش ظروفا عادية.. بشرني بنشر أحد بحوثه العلمية في مجلة محكمة في الهند، واستبشر خيرا بالمجلة الفلسفية التي ينوي بيت الحكمة إصدارها هنا.. روى لي طرفة:ابنه يتطلع من النافذة ليقول، في ثقة وافتخار، هذه طائراتهم، فأصوات طائراتنا أعلى… وضحك العمور، كما كان يضحك منذ 26 سنة في شقة الدراسات العليا في الزاوية!!
وفجأة ارتفع صوته بالتكبير؛ الله أكبر، الله أكبر.
سألته، مشفقا: هل عاد القصف؟
– بل انطلقت دفعة من الصواريخ الآن… ثم عاد إلى مرحه..
– هذه الصواريخ عجيبة؛ تنطلق من كل مكان. قد يمتلك الانسان حقلا للزيتون، فتنشق الأرض فجأة لتخرج الصواريخ؛ 24 صاروخا تنطلق في ثوان.. لقد بنوا مدينة تحت الأرض… المجد لهم؛ إخوانا كانوا، أو قوميين، متصوفة أو سلفيين، سنة أو شيعة.. فقد صنعوا الفارق، والباقي تفاصيل ليس هذا أوانها.. هذا أوان الشد فاشتدي زيم…
من صفحة الدكتور : محمد إسحاق الكنتي